الدكتور سعيد الجريري: 1989/1990 كانت نقطة تحول دراماتيكية بالنسبة لنا
ترجمة خاصة.
بمناسبة مرور 30 سنة على انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين، سلطت المجلة الألمانية اليسارية ” مالداكسترا” الضوء على تجارب عدد من البلدان التي شهدت تحولات جذرية واستراتيجية في العامين 1989-1990، من ضمنها التحول التاريخي والدراماتيكي الذي مرّ به “اليمن الجنوبي” خلال تلك الفترة وانتهى بإعلان الوحدة مع “اليمن الشمالي”.
وفي عدد شهر ديسمبر 2019، نشرت مجلة “مالداكتسرا” حواراً مع الدكتور سعيد الجريري* أستاذ الأدب المقيم حاليا في هولندا تطرق فيه إلى أهم النقاط المفصلية والمخاضات المختلفة التي شكّلت ملامح تلك الفترة، ثم تداعياتها ونتائجها المختلفة إلى هذه الحظة. الحوار الذي نُشِر نصه باللغة الألمانية، أجرته الدكتورة أميرة أوغسطين**.
نص الحوار:
ماذا الذي حدث في جنوب اليمن خلال العامين 1989/1990؟ وهل كان للتحولات التي مرت بها ألمانيا ودول أوروبا الشرقية خلال تلك الفترة تأثير على ما كان يجري في اليمن الجنوبي؟ ثم ما هي الرؤى والتطلعات التي راودتكم أو المخاوف التي انتابتكم حينها؟
نشأت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والمعروفة أيضًا باسم “اليمن الجنوبي”، في العام 1967 بعد أكثر من أربع سنوات من النضال توقاً للاستقلال عن الاستعمار البريطاني، حيث خضعت معظم مناطق “إمارات الجنوب العربي” للحكم البريطاني لمدة بلغت الـ 129 عاماً. بعد الاستقلال، كانت الجبهة القومية أكثر حماسة في توجهها صوب الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الشرقي مقارنة بالدول العربية الأخرى، وقد انتهجت سياسة ذات توجه ماركسي. لقد كانت تجربة “أليمن الجنوبي” المُحاط بالنُظم الملكية المحافظة استثناءً في شبه الجزيرة العربية. في نهاية الثمانينيات، استهل غورباتشوف البيريسترويكا وسياسة المصارحة (Glasnost). التطورات في الاتحاد السوفيتي كان يتم متابعتها بقلق في عدن، ففي النهاية، كانت هذه الاحداث متصلة بأقرب حليف لجنوب اليمن.
كانت أوروبا الشرقية أقرب إلينا سياسياً من جارتنا المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، وقد حلمنا جميعاً بتطبيق مبادئ الاشتراكية والعدالة الاجتماعية. أثارت التغييرات هناك مخاوف بشأن مستقبل دولتنا وشعبنا، لأننا كنّا قد شكّلنا معسكرا سياسيا واحداً. في نهاية المطاف، انهار الاتحاد السوفيتي، مما تسبب في حالة من الذعر داخل الحزب الاشتراكي اليمني، الحزب الوحدوي في دولتنا. فوق ذلك، أدت الصراعات الداخلية داخل الحزب الاشتراكي الحاكم إلى مشروع الوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية، والمعروفة أيضًا باسم “اليمن الشمالي”.
لماذا وكيف تحققت الوحدة بين البلدين؟
تستند فكرة الوحدة إلى أخطاء تاريخية وسياسية وأيديولوجية. فحتى الـ 30 نوفمبر 1967، يوم الاستقلال عن بريطانيا العظمى، كانت المنطقة، التي أصبحت فيما بعد “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”، تسمى الجنوب العربي. في ذلك الوقت، كان أولئك الذين قاتلوا من أجل دولة مستقلة ضد البريطانيين متأثرين إلى حد كبير بالثورة المصرية (قامت في 23 يوليو 1952)، بقيادة جمال عبد الناصر، الذي سعى إلى توحيد الأمة العربية. يُمكن فهم الرغبة في قيام مثل هذه الوحدة في سياق حقبة الاستعمار الغربي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تأثر الناس في الجنوب العربي بالعواطف العربية القومية. لهذا السبب، أطلقت الجبهة القومية على الدولة الوليدة اسم “جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية” عام 1967، ثم تم تغييرها إلى “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية” منذ عام 1969، بحيث تم إدراج مسمى “اليمن” في اسم الدولة الرسمي. ومنذ ذلك الحين، بات الناس يتحدثون عن يمنيين: شمال اليمن وجنوب اليمن. الجنوب العربي، الذي كان تحت الحكم البريطاني، لم يكن جزءًا من اليمن. أدت هذه الأخطاء الإيديولوجية والسياسية إلى الوحدة في عام 1990-وحدة لم تخدم الشعبين في الشمال والجنوب.
ماذا عَنَى قيام الوحدة اليمنية في العام 1990 للكثير من اليمنيين الجنوبيين؟
بالنسبة للكثيرين في جنوب اليمن، فإن الوحدة اليمنية باتت تعني فقدان وطنهم وكرامتهم وحريتهم ومستقبلهم. لقد تاق الناس في أول الأمر إلى قيام الوحدة في عام 1990. كانوا متأثرين بفكرة الوحدة العربية التي تم تكريسها في جميع مجالات الحياة خلال فترة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. وعلى سبيل المثال، هيمنت فكرة الوحدة على النظام التعليمي بأكمله قبل قيامها، وعندما كان يذهب الطلاب صباحًا إلى المدرسة، كان يجب عليهم أن يصرخوا كل يوم بأنهم سيعملون على تحقيق الوحدة. كانت الوحدة بالنسبة لكل لأطفال فكرة مثالية عليا ومنذ سن مبكرة.
بعد كل نزاع حدودي مع الشمال، وضعت الوحدة كهدف طويل الأجل في اتفاق السلام. لذلك ليس من المستغرب أن يشعر السكان بالسعادة لحظة تحقيق الوحدة في عام 1990. كان الناس مفعمين بالتوقعات والتطلعات الإيجابية بتحقق مستقبل مزدهر. ساد الاعتقاد بأن قيام الوحدة يَعد بالتقدم والتنمية لكلا البلدين. ومع ذلك، فقد تحول كل شيء بشكل مختلف ولم يدم فرح الناس لفترة طويلة. لقد بدأت هذه الوحدة بتصفية أعضاء الحزب الاشتراكي أنفسهم. قُتل ما يقرب من الـ 200 عضو في السنوات القليلة الأولى بعد الوحدة. اندلعت الحرب في عام 1994. أراد الجنوب أن يصبح مستقلًا مرة أخرى، لكنه خسر الحرب. بعد الهزيمة، اُجبر مئات الآلاف من الجنود وموظفي الدولة من الجنوب على التقاعد. تم الاستيلاء على الأراضي التي كانت مملوكة للدولة في الجنوب، من قبل النخب والجنرالات الشمال. استفادت النخبة في صنعاء من عائدات النفط، على الرغم من أن 80% من النفط يتم استخراجه من الجنوب. لقد تغير كل شيء.
كيف سارت الأمور، خصوصاً بعد حرب 1994؟
بعد عام 1990، تم فرض قوانين وأعراف الشمال على الجنوب وإلغاء كل إنجازاتنا الاجتماعية. وفي هذا الصدد، أقدم مثالين مهمين كان لهما تأثير هائل على الحياة الاجتماعية والثقافية في جنوب اليمن.
أولاً، تم إلغاء قانون الأسرة الجنوبي في عام 1992، والذي كان يعتبر الأكثر تقدماً في العالم العربي في السبعينيات والثمانينيات. لقد تمتعت النساء بحقوق واسعة، وكان يُمكنهن ممارسة جميع المهن. كانت أوائل القضاة من النساء في شبه الجزيرة العربية من جنوب اليمن، وكذلك قائدات الطائرات والمظليات.
ثانياً، تم تغيير نظام ومناهج التعليم. نظامنا التعليمي كان على غرار الدول الاشتراكية. تلقينا الكثير من الدعم من استشاريين من الكتلة الشرقية، وخاصة من ألمانيا الشرقية. بعد التوحيد، تم إلغاء نظام المدارس الجنوبية وبات نظام المدارس بعد الوحدة يعتمد إلى حد كبير على نظام ومناهج الشمال. منذ ذلك الحين، انتشر المحتوى الديني في التعليم. لقد تم إزالة جميع الإشارات إلى الدولتين المستقلتين قبل الوحدة والإنجازات الاجتماعية التي تحققت للجنوب من الكتب المدرسية. بالإضافة إلى ذلك، زاد الفساد بعد الوحدة. وقد شعر الناس وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. بدأت فترة احتلال جنوب اليمن بعد حرب 1994.
في عام 2006، بدأت مقاومة القمع تتوسع وتُنظّم. ظهر ما يسمى بالحراك الجنوبي في عام 2007، وقد اعتمد على المتقاعدين قسراً، بشكلٍ أساسي، بجانب الشباب العاطلين عن العمل. تم قمع حركة الاحتجاج السلمية بوحشية على أيدي قوات الأمن التابعة للرئيس السابق علي عبد الله صالح. لكن لم يَعد بإمكان أي شخص أن يصمت. فكلما زاد القمع، زادت في المقابل شعبية “الحراك الجنوبي” بين السكان. وهكذا استمر الحراك في المطالبة باستعادة دولتنا.
في الوقت الحالي، كيف يتم استيعاب التحول المفصلي في جنوب اليمن أو من قِبل اليمنيين الجنوبيين بالمهجر؟ وكيف ترى النساء والشباب -على وجه الخصوص -الوحدة اليوم، حسب اعتقادك؟
غالبية الناس في الجنوب يرون الوحدة كابوسًا لا ينتهي أبدًا، باستثناء عدد قليل منهم. فعلى نحوٍ خاصٍ، تم تقييد النساء وحقوقهن بعد الوحدة مباشرة، وبشكل مريع. لهذا السبب انخرطت النساء بقوة في الحراك الجنوبي. وكذلك فعل الشباب. لقد سُرق منهم المستقبل. غالبية اليمنيين الجنوبيين في المهجر يدعمون الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقلال في البلاد وهم نشطون للغاية في الخارج.
ما هو مصير الحزب الاشتراكي الذي حكم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية؟
بعد الوحدة، تم تشويه صورة الشعب في جنوب اليمن من قبل النخب الشمالية المحافظة وتصويرهم على أنهم ماركسيين مُلحدين. تم تصفية كوادر الحزب، تقريباً 200 شخص. في حرب عام 1994، تم اصدار فتوى دينية من قبل علماء محافظين من الشمال تضفي المشروعية على قتل سكان جنوب اليمن لأنهم كانوا اشتراكيين ومرتدين عن الإسلام.
لا تزال تستخدم مثل هذه الفتاوى إلى حد اليوم، وآخرها في أغسطس 2019، حيث تم إصدار فتوى ضد المجلس الانتقالي الجنوبي ومؤيديه. أغلبية اليمنيين الجنوبيين في الحزب الاشتراكي اليمني تركوا الحزب الاشتراكي قبل سنواتٍ عديدةٍ، وانضموا إلى الحراك الجنوبي.
ماذا الذي تعنيه أحداث 1989/1990 لليمنيين الجنوبيين اليوم؟ وماذا تعني لك؟
بالنسبة لنا، تُمثِل أحداث 1989/90 نقطة تحول دراماتيكية. لقد فقدنا حلفائنا الاستراتيجيين، وهذا ساهم في دفعنا إلى الإعلان عن وحدة مع نظام متخلف يتسم بالعقلية القبلية. هذا النظام في عهد علي عبد الله صالح لم يفكر في الاستثمار في الناس ومستقبلهم، ولكن كل همه إثراءه الذاتي من خلال اضطهاد الشعب.
——-
* الدكتور سعيد الجريري
أستاذ سابق للأدب والنقد الأدبي في كلية العلوم الإنسانية جامعة حضرموت. يعيش حالياً في هولندا منذ عام 2014.
**آن ليندا أميرة أوغسطين
حاصلة على درجة الدكتوراه في جامعة فيليبس في ماربورغ حول العلاقات بين الأجيال داخل الحراك الجنوبي والمقاومة اليومية في جنوب اليمن.