موروث عدن الثقافي ومعالمها الأثرية

تحت عنوان: “موروث عدن الثقافي ومعالمها الأثرية”؛ في ضرورة حماية ذاكرة المدينة الصلبة وخيال أمكنتها العابر للحدود والأفاق من العبث والتدمير، نظّم منتدى محمد علي لقمان يوم أمس الجمعة الموافق 25 سبتمبر 2020 ندوة افتراضية عن طريق برنامج الزوم، تحدّث فيها كلٌ من: الدكتورة أسمهان العلس، أستاذة التاريخ في جامعة عدن والأمين العام للجمعية اليمنية للتاريخ والآثار، والمهندس المعماري شادي علون الحاصل على شهادة الماجستير من جامعة لوند الفرنسية، وأدراها الإعلامي أسامة عدنان.

في البداية، استهل مدير الندوة والمذيع السابق في قناة عدن الفضائية الترحيب بالضيوف المتحدثين وبالمتابعين من كل اصقاع الأرض، ثم تطرّق – في مقدمته – إلى أبرز ما تتمتع به مدينة عدن من خصائص ومزايا جغرافية واجتماعية، وأهمية التراث الثقافي الثري والمتنوع لهذه المدينة الكوزموبوليتية سواء في شقه المادي أو غير المادي، ودوره في إضفاء الطابع المميز عليها، منوهاً إلى كثير من التعديات والتدمير الممنهج الذي تتعرض له المدينة الساحلية وموروثها وأثارها منذ زمن.

بعدها جاء الدور على المتحدثين الرسميين، استهلته الدكتورة أسمهان العلس بورقة تحت عنوان: “الحق الثقافي العام لمدينة عدن”. وفي بداية حديثها، أشارت إلى الخلفية التاريخية لمدينة عدن؛ معنى أسمها، وكذلك بعض الأسماء الأخرى التي اُطلقت عليها منذ القدم، فضلاً عن أهم الخصائص الجغرافية والطبيعية والجيوسياسية التي تتمتع بها، مما أهلها لأن تلعب أدواراً مهمة منذ فجر التاريخ باعتبارها شريان مهم للتجارة ونقطة التقاء أساسية بين شرق العالم وغربه، كما عكس تفرد موروثها الثقافي وتنوعه. ثم عرّجت أستاذة التاريخ في جامعة عدن إلى أبرز الآثار والمعالم التاريخية التي تزخر بها المدينة أهمها: منظومة الصهاريج والسائلات المائية التابعة لها، قلعة صيرة، باب العقبة، الأسوار والتحصينات، المباني الأثرية، دور العبادة التاريخية والتي تُمثِّل ديانات وطوائف مختلفة، ملامح من العمارة العدنية ومعالم من التخطيط الحضري المُبكر، وعدد من المنشئات والمؤسسات التي تعكس ريادة المدينة على مستوى الجزيرة العربية في مجالات شتى.

وقد ركّزت العلس، وهي شخصية عدنية بارزة ومؤثرة وصاحبة العديد من المبادرات الهامة التي تهدف إلى حماية الآثار والموروث الثقافي لمدينة عدن، على أوجه العبث والتدمير المتواصل الذي تتعرض له المدينة منذ سنوات طويلة، مما عاد عليها بخسائر فادحة مادية ومعنوية، وشوّه كثير من معالمها وطابعها الثقافي المتفرد في تنوعه. وبالنسبة لأشكال ودرجات العبث بالموروث الثقافي لمدينة عدن خلال الفترة الزمنية 1939 – 2020، فقد قسمته الدكتورة إلى أربع مراحل: مرحلة الاستعمار البريطاني (1939-1967)، وفي هذه المرحلة تعرضت عدد من معالم مدينة عدن للتدمير، حيث تم ردم الأرض المقابلة لقلعة وميناء صيرة وذلك بهدف بناء معسكرات للجيش البريطاني، ثم لاحقاً تم بناء حي سكني (منطقة الروزميت) في نفس المنطقة، لتتلاحق المباني على طول الساحل المواجهة للميناء القديم وقلعة صيرة مما أضاع إمكانيات إبراز هذا الموقع بمضمونه الآثاري كبوابة تاريخية وتحويله إلى مزار ثقافي وسياحي لعدن، ثم قامت الإدارة البريطانية بتوسيع باب العقبة وتشييد مبانٍ سكنية وتجارية في الطريق الواصل بين باب العقبة وباب حقات (المسمى حالياً بشارع أروى) مما افقد عدن ملمحاً آثارياً وجمالياً يربط بين البابين.

المرحلة الثاني هي مرحلة دولة الاستقلال في اليمن الجنوبي (1967 – 1990)، وتم فيها هدم بعض دور العبادة والمؤسسات التعليمية، كمدرسة اليهود، فضلاً عن هدم سجن عدن وبناء وحدة سكنية في مكانه، وهو السجن الذي شهد على نضالات كثير من رموز الحركة الوطنية. بدأت أعنف مراحل تدمير معالم عدن والعبث بموروثها الثقافي في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة ما بعد الوحدة اليمنية (1990-2015)، وأبرز هذه التعديات: بيع المواقع التاريخية أو صرفها لمستثمرين بهدف هدمها وإقامة مشاريع تجارية أو سكنية، هدم المعالم القديمة، تعليق العمل بالنظام والقانون واللوائح الضابطة، انتشار نمط معماري دخيل، انتشار العشوائيات، السماح للبناء في حرم المعالم الأثرية، تغيير هوية المدينة المتفردة… إلخ. أما المرحلة الرابعة فقد حددتها الدكتورة أسمهان العلس من فترة ما بعد حرب 2015، وفي البداية عرضت صورة الخراب الكبير الذي أصاب المدينة، وخصوصا معالمها الأثرية، بسبب القصف الذي تعرضت له مدينة عدن من قبل قوات الحوثي والرئيس السابق صالح، وكذلك لأشكال وأنواع العبث والتدمير الذي طال تلك المعالم في فترة ما بعد طرد هذه القوات من المدينة وإلى حد اللحظة، وتمثل في: انتشار العشوائية والبسط على المواقع التاريخية والأثرية، وبشكلٍ مهول، بما فيها حرم قلعة صيرة وميناءها التاريخ باعتبارهما أهم معالم عدن، العبث بأحواض المملاح، تغيير الوجه المعماري للمدينة، البسط على كل الفراغات والمتنفسات، العبث بالسواحل وتحويلها إلى مستوطنات، انتشار ممارسات غريبة تماما عن طابع المدينة المدني…

الورقة الثانية جاءت تحت عنوان: “جماليات العمارة العدنية والمخاطر التي تتعرض لها” وقدّمها المهندس شادي علوان. أشار في مستهل حديثه إلى التنوع الكبير في الطابع المعماري وأنماطه المختلفة لمدينة عدن بسبب تعدد مصادره سواء المحلية منها أم الخارجية. وبحسب علوان، الذي سبق وأن نشر بحث علمي عن خصائص العمارة العدنية على موقع جامعة لوند السويدية، فإن المباني العدنية كانت تُبنى بشكل صفي مستطيلة الشكل ومتلاصقة مع بعضها البعض وذلك لتجنب سقوط أشعة الشمس على الواجهات وليُساهم في تبريد المباني من الداخل، وهذه الطريقة من البناء أدت إلى ظهور الأزقة المميزة بين المباني وبيئة “الحافات” التي توازي مفهوم Neighborhood.

كانت المواد المستخدمة في البناء تأتي من المدينة نفسها، وأبرزه “الحجر الشمساني”، نسبة إلى أكبر جبل في عدن، وهو حجر بركاني يمتاز بصلابته وعزله للحرارة ومقاومته للرطوبة وتخفيفه من الضوضاء، فضلا عن الشكل الخارجي المميز والمتفرد الذي أضفاه على المباني، وفقاً للمهندس المعماري. وبالنسبة للمباني فقد كانت تتكون من ثلاثة إلى أربعة أدوار، تزينها المشربيات والنوافذ الخشبية التي تختلف في أشكالها وأحجامها لتؤدي أدوار مختلفة من كسر أشعة الشمس الحارقة إلى منح الساكنين مساحة للجلوس والإطلال على المحيط.

في الجزء الثاني من ورقته، تطرق المهندس شادي علوان إلى خصائص الفن المعماري في المعالم الأثرية القديمة، وأبرزها ما يُسمى بـ”المسارات السبعة” الموجودة فوق جبل شمسان والتي يعود زمن تشييدها إلى عصور غابرة، واُستخدمت كحاجز لمياة الأمطار، وفي نفس الوقت لتصفية المياة التي تنزل إلى صهاريج صيرة حيث كان يتم تخزينها واستخدامها قبل ظهور وسائل إمداد المياة الحديثة، وأما صهاريج صيرة الذي يبلغ عددها 53 صهريجاً فقد عكست عظمة المهندسون العدنيون القدماء من حيث الدقة والكفاءة وكذلك استخدامهم لمادة “مُوْنَة البُومْس” التي اُستخدمت كمادة عازلة وحافظة للمياة في الصهاريج كما تم استخدامها في المباني القديمة، وكان يتم استخراجها من المحاجر في أعلى جبل شمسان.

في نهاية حديثه، استعرض علوان أشكال مختلفة من العبث والتدمير الذي يتعرض له النمط المعماري العدني الفريد، أبرزها: انهيار وتهدم الكثير من البنايات ذات الطراز المعماري المميز سواء بسبب الحروب أو بسبب الإهمال والتقصير، البناء العشوائي، دخول أشكال غريبة من الأنماط المعمارية على المدينة وبشكل يتنافر مع الطابع السائد، عدم وجود قوانين وضوابط تنظم عملية البناء، وجود جهل حتى بين المختصين في الجامعات للطابع المميز للعمارة العدنية أدى إلى التعامل مع عدن باعتبارها مدينة بلا هوية معمارية، فضلا عن التدمير الذي يُطال المعالم الأثرية لدرجة انه لم يتبق من صهاريج عدن سوى 13 صهريج فقط.

الندوة التي تابعها نخبة من المختصين والمهتمين المحليين والأجانب، اُثريت بكثير من المداخلات والملاحظات المهمة تركزت حول كيفية الحفاظ على الموروث الثقافي لعدن وحماية معالمها الأثرية من العبث والتدمير، والمبادرة إلى تشكيل مجموعات عمل للضغط على الجهات المحلية والدولية للقيام بدورها في سبيلة حماية كنوز هذه المدينة الكوزموبوليتية.

يمكن مشاهدة الندوة كاملة من هنا